الرئيسية غير مصنف  التركيز في زمن التشتّت

 التركيز في زمن التشتّت

بواسطة سعود العمر
مؤقت بومودورو

بودكاست مناقشة التدوينة

نشر هذا المقال لأول مرة في مجلة القافلة الصادرة من أرامكو في عدد مايو ٢٠٢٥


حياتك بكل ما تحمله من أفكار ومشاعر وإنجازات ليست سوى ثمرة تركيزك.

حياتك بكل ما تحمله من أفكار ومشاعر وإنجازات ليست سوى ثمرة تركيزك. إتقانك لمهارة التركيز العميق وتجنّب المشتتات لا يُنمّي هذه المهارة فحسب، بل يُعزّز كل مهاراتك الأساسية الأخرى. فقد أثبتت الدراسات أن التركيز العميق أشبه بسُلَّم يُمكّنك من الارتقاء بقدرتك على التعلم، وتحسين قوة إرادتك، ورفع كفاءة إنجازك اليومي، وتحرير طاقتك الإبداعية. أما حين تفقد السيطرة على تركيزك ونقع فريسة للتشتّت تتدهور قدراتك الواحدة تلو الأخرى.

💡لماذا يصعب تطوير التركيز؟

هناك ثلاثة أسباب تجعل تطوير مستوى التركيز أمرًا عسيرًا. الأول: غزارة الأفكار والنصائح. هذا الإغراق المعلوماتي يؤدي إلى حالة ذهنية تُسمى “الشلل التحليلي“، حيث تؤدي كثرة الخيارات إلى تعطيل اتخاذ القرار. الثاني: نمط حياتنا المعاصر يعادي التركيز. فرسائل “الواتساب”، وتنبيهات “إكس”، ومقاطع “التيك توك”، تنخر في قدرتنا على التركيز. الثالث: افتقارنا لفهم آلية التركيز ذاتها. كيف يحدث التركيز داخل العقل؟ هذا الفهم هو ما يحدد اختيارك لطريقة تطوير تركيزك ويعينك على المثابرة.

🧠 التركيز داخل العقل

لنبدأ بشيء من التعمّق في فهم التركيز بعدها سنختار الطريقة الأنسب لتقويته. دماغك يستقبل سيلاً هائلًا من المؤثرات الحسية من محيطك (أصوات، ألوان، أشكال، روائح) أكثر بكثير مما يمكنك تخيله، والتركيز ببساطة هو: عملية اختيار من بين كل هذه المؤثرات لما سيحظى بانتباهك. تخيل عقلك كمسرح يقف عليه عشرات الممثلين، التركيز حينها يشبه ضوءًا يتم تسليطه على ممثل واحد فقط.

كيف يختار الدماغ ما يستحوذ على انتباهك؟ هناك طريقتان: إرادية ولاإرادية. الطريقة الإرادية هي أن توجّه انتباهك عمدًا نحو هدف معيّن، بينما الطريقة اللاإرادية هي أن يقوم دماغك تلقائيًا بمسح محيطك واختيار ما يبدو مهمًا. لتوضيح الفرق، تخيل نفسك متواجدًا في حفل مزدحم. أثناء ذلك، يمكنك توجيه تركيزك على محادثة محددة لشخص أمامك (انتباه إرادي)، لكن لو ذُكر اسمك في محادثة جانبية، ستنتبه تلقائيًا، حتى لو لم تكن تصغي لها (انتباه لا إرادي).

يميل العقل بشدّة لتوجيه التركيز على الجوانب السلبية أكثر من الإيجابية بدافع حمايتك من الأخطار، وهذه الحالة تُعرف بـاسم “التحيّز السلبي“. من مظاهر هذا التحيّز أن الإنسان يتأثر بالنقد أكثر من الإطراء، ويتذكّر التجارب السلبية أكثر من الإيجابية، ويلاحظ الوجوه العابسة بين الجموع أسرع من الوجوه المبتسمة. منصات التواصل الاجتماعي تعرف جيداً طبيعة الدماغ، لذلك تروّج خوارزمياتها للمحتوى السلبي أكثر من الإيجابي لتغذية هذا التحيز.

التركيز على السلبيات يضيّق مجال الانتباه حتى يحصره في الأمر السلبي محل الاهتمام. تصور شخصًا ينزف، من الطبيعي ألا يفكر في أي شيء سوى جرحه. المشكلة أن التركيز السلبي المستمر يضيّق أفق الفرد، ويقوقع شخصيته، ويقلّص اهتماماته. أما حين يعمد إلى توجيه انتباهه نحو الإيجابيات، يبدأ إدراكه بالاتساع، وتتنامى رغبته في الاستكشاف، ويزداد حماسه للتعاون والإبداع.

✏️ سر التركيز العميق: الجهد مقابل النتيجة

وهنا نصل إلى لب الموضوع: التركيز العميق صعب، خصوصًا في الدراسة والعمل، لأن العقل ينصبّ تركيزه على الجانب السلبي ألا وهو النتيجة. أما الخطوة الأهم للتركيز بعمق فهي إعادة توجيه العقل للتركيز على الجانب الإيجابي، ألا وهو الجهد. لنوضّح أكثر: عندما يقرر الطالب المذاكرة، عادةً يكون هدفه تجاوز الاختبار، فينصب تركيزه على النجاح في المقرر (النتيجة) بدلًا من التركيز على المذاكرة نفسها (الجهد). هذا يخلق فجوة بين واقعه الحالي وما يطمح له، فيتشتت تركيزه، ويندفع للتسويف، وتستنزف طاقته بسرعة. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف نستطيع التركيز على الجهد دون التشتت بالنتيجة؟

🍅 حكاية طماطة

في الثمانينات، كان هناك طالب جامعي في إيطاليا يُدعى “فرانشيسكو سيريلو” يعاني من التشتّت، ولا يعرف ماذا يجب أن يفعل كي يستجمع تركيزه ويحسن مستواه الأكاديمي. في غمرة اليأس، اتجه للمطبخ وأخذ ساعة توقيت على شكل طماطم تستخدم لحساب وقت الطبخ، وقطع عهدًا أن يدرس بتركيز لمدة عشر دقائق فقط. ولدهشته، نجحت الفكرة! بعد سلسلة من التجارب توصّل إلى الوصفة التالية: 

١. أحضر مؤقتًا.

٢. ادرس بتركيز تام لمدة ٢٥ دقيقة ولا تسمح لأي شيء بتشتيتك.

٣. استرح لمدة خمس دقائق. 

٤. كرّر العملية عدة مرات. 

نجحت طريقته نجاحًا باهرًا وتحولت لظاهرة عالمية في عالم الإنتاجية عُرفت باسم “تكتيك البومودورو” (كلمة إيطالية تعني “الطماطم”). عند تطبيق هذه الطريقة، سيلاحظ الشخص أن ذهنه يشتته كثيراً، وأن المحيطين به يقاطعونه باستمرار، لكن بمرور الوقت سيكتشف أنه قادر على التحكم بهذه المشتّتات.

ما قام به “سيريلو” هو أنه حوّل الدراسة من جلسة واحدة طويلة بتركيز منخفض إلى جلسات متعددة قصيرة بتركيز عالٍ. والأهم من ذلك، أنه أزاح بؤرة تركيزه من النتيجة إلى الجهد. الجهد يعتبر إيجابيًا لأنه تحت سيطرتك ويحدث الآن، بخلاف النتيجة التي تأتي لاحقًا وقد لا تكون مضمونة. الفرق بين الاثنين هائل. تخيّل مقدار قلقك عندما تركز على إنجاز مشروع ضخم، وقارنه بشعورك عندما تركّز على بذل جهد بسيط مدته ٢٥ دقيقة.  هذا الإدراك بأن الأمور تحت تحكمك يعتبر أكبر محفز للتركيز.

🌊 ذروة التركيز: التدفق العقلي

الالتزام المنتظم بـتكتيك البومودورو يمنحك فوائد عدة، منها: (١) يقوّي تركيزك تدريجيًا (٢) يزيد من قدرتك على التحكم بالمشتتات (٣) يطور مهارتك في تقدير الوقت اللازم لإنجاز المهام. لكن الفائدة الأعظم، هي أنه يُقرّبك من حالة ذهنية استثنائية تُعرف بـ “التدفّق“، وهي حالة تنغمس فيها بالعمل حتى تفقد الإحساس بالزمن وبنفسك. من جرّب هذه الحالة وصفها بذروة الشعور البشري. للوصول لحالة التدفق تحتاج إلى: (١) مهمة ذات هدف واضح (٢) أن تكون المهمة متوسطة الصعوبة (٣) وجود وسيلة لقياس التقدّم والنجاح. تكتيك البومودورو يسهّل عليك تهيئة هذه الشروط عبر تقسيم العمل إلى أهداف صغيرة مضبوطة بإطار زمني.

عندما تتقن فن الوصول لحالة التدفق، ستدرك أنها جوهر الإبداع، وأساس جودة الحياة، كما ستكتشف شيئًا مدهشًا أخر: أثناء التدفق العقلي، الحدود الفاصلة بين الدراسة واللعب، وبين العمل والمتعة، تتلاشى تمامًا.

مقالات أخرى

اترك تعليق