نشر هذا المقال لأول مرة بنسخة مختصرة في مجلة القافلة الصادرة من أرامكو في عدد سبتمبر ٢٠٢٤
بودكاست التدوينة
إذا كنت ترغب في تجربة التدوينة التالية بشكل مختلف، فقد استخدمت برنامج NotebookLM من Google لتحويلها إلى بودكاست. كل ما قمت به هو تغذيته برابط التدوينة، وتولى الذكاء الاصطناعي الباقي. النتيجة مدهشة بشكل يستعصي على التصديق.
العقل والجسد: أكثر من مجرد سائق ومركبة
غالباً ما نتصور الدماغ يتحكم في الجسد كما يتحكم السائق بالسيارة. عندما يرفع الشخص يده، أو يقفز، أو يكتب على لوحة المفاتيح، فذلك يحدث لأن دماغه أصدر الأوامر لأعضاء جسده بتنفيذ الحركة. لكن الأبحاث والدراسات الحديثة أظهرت أن التحكم والتوجيه يحدث في كلا الاتجاهين. فالجسد أيضاً، من خلال نشاطاته الحسية والحركية، يتحكم بالدماغ.
وقفة السوبرمان: كيف يمكن لجسدك أن يشكِّل مشاعرك؟
لتوضيح هذه الفكرة، دعونا نقوم بتجربة بسيطة: قف لعدة ثواني بوضعية القوة (على غرار طريقة وقوف سوبرمان أو المرأة الخارقة)، أي قف بظهر منتصب، ويديك على خصرك مع توجيه الكوعين للخارج، وباعد قدميك لتوسيع جسمك. أثناء وقوفك بهذه الوضعية ركز على أي تغير طفيف قد تشعر به داخليًا وفي حالتك النفسية. جرّب الآن.
غالباً ما يشعر من يقف بوضعية القوة لفترة وجيزة بتنامي الثقة والحزم داخله. هذا الشعور قد يظهر بشكل طفيف لكنه ملحوظ. ما لذي يحدث؟ لماذا يتولد الشعور بالقوة بالرغم من عدم تغير أي شيء في العقل أو المحيط؟ ما يحدث ببساطة هو أن الجسد يتحكم بالعقل، أو ما يعرف باسم “التغذية الراجعة الجسدية”.
حفزت هذه الملاحظة المفاجئة مجموعة من الباحثين في عام ٢٠١٠، بقيادة باحثة اسمها آمي كادي، بدراسة الوقوف بوضعية القوة بشكل علمي. فقد نفذوا تجربة طلبوا فيها من نصف المشاركين أن يتخذوا وضعية القوة لعدة دقائق، بعد ذلك وضع الباحثون المشاركين عمداً في مواقف مثيرة للتوتر، كإجراء مقابلة توظيف حادة، وتابعوا كيف سيتصرفون مقارنة بالنصف الآخر الذين لم يجربوا الوضعية. النتيجة العجيبة كانت أنه بعد ممارسة المشاركين لوضعية القوة لعدة دقائق استطاعوا التفوق على أقرانهم في التعامل مع المواقف الصعبة، بل إن النتيجة الأكثر إثارة للدهشة ظهرت بعد انتهاء التجربة حين فحص الباحثون عينات لعاب من المشاركين. فقد اكتشفوا أن الأشخاص الذين مارسوا وقفة القوة سجلوا مستويات أقل من هرمون التوتر “الكورتيزول”، ومستويات أعلى من هرمون الثقة والهيمنة “التستوستيرون”. تكشف لنا هذه الدراسة أن أي نشاط جسدي نقوم به، مهما كان بسيطاً، يترك أثراً عميقاً على حالتنا النفسية والفسيولوجية.
الإدراك المتجسّد: ماذا يعني؟
القدرة الفائقة للجسد والنشاطات الجسدية على التأثير في العقل تعرف باسم الإدراك المتجسّد (Embodied Cognition). يشير المفهوم أن للجسد، من خلال أنظمته الحسية والحركية، قدرة هائلة على تشكيل أفكارنا، وذكرياتنا، ومشاعرنا. التفكير عملية متشابكة بين الدماغ والجسد، حيث يتأثر – وربما حتى يتحدد – من خلال حواسنا وأنشطتنا الجسدية، على سبيل المثال: المشي يحفز الإبداع ويزيد وضوح التفكير، والتنفس العميق يقلل من مستويات التوتر والقلق، والرقص يحسن المزاج ويثير العواطف ويرفع من مستويات هرمون الإندورفين المرتبط بالسعادة.
تجربة الحبلين: الحركة كطريقة للإبداع وحل المشكلات
تأثير التحركات الجسدية لا يقتصر فقط على تلطيف المشاعر وتحسين مستويات الهرمونات، بل يمكن للشخص أن يجسدن تفكيره، أي أن يفكر باستخدام جسده، ويبتكر، ويجد حلولاً لمشاكل لا يستطيع أن يحلها باستخدام دماغه فقط.
ففي تجربة تسمى بـ “تجربة الحبلين“، أُدخل المشاركون في غرفة كبيرة تحتوي حبلين يتدليان من السقف تفصلهما مسافة متر، وعلى الأرض كان يوجد كماشة “زرادية”، ودفتر أعواد ثقاب، وقطن. طلب الباحثون من المشاركين أن يمسكا الخيطين معاً في الوقت ذاته، ونفذوا ذلك بسهولة، بعد ذلك زاد الباحثون المسافة بين الحبلين إلى أكثر من مترين، ولم يتمكن المشاركون من تنفيذ المهمة. طُلب منهم أن يفكروا في حل باستخدام المواد المتوفرة لديهم، ولكن لم يتمكن بعضهم من حل المشكلة. تخيل نفسك مكانهم، كيف ستمسك بحبلين بينهم مسافة أكثر من مترين في غرفة لا يوجد فيها سوى أعواد ثقاب، وكماشة، وقطن؟ حينها، طٌلب من المشاركين أن يقفوا ويتحركوا في الغرفة ويعبثوا بالموجودات، وما كانت سوى دقائق قليلة حتى اكتشفوا الحل (شاهد) الذي كان: اربط نهاية أحد الحبلين بالكماشة، ثم قم بأرجحة الحبل، ثم أمسك بالحبل الثاني، وبعد ذلك أمسك بالحبل الأول أثناء تأرجحه.
هذه التجربة توضح بجلاء أن القدرة على الابتكار وحل المشكلات تتحسن إذا سُمح للأشخاص بالحركة، وتتدهور إذا أُلزموا بالجلوس في مكانهم، كما يحدث للطلاب في الفصول الدراسية التقليدية. هناك دراسات كثيرة توصلت لنتائج مشابهة تؤكد أهمية الحركة الجسدية في التفكير. على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أن الجلوس دون حركة يضعف من فعالية التفكير الحسابي، وأن قدرة الطالب على حل المسائل الحسابية تتحسن أثناء الوقوف، وتصل لأدنى مستوياتها عند الاستلقاء.
فلسفة الإدراك المتجسد: تحدي الفلسفة التقليدية
نظرية الإدراك المتجسد تتصادم على نحو صريح ومباشر مع الفلسفة التقليدية، وخصوصاً ثنائية العقل والجسد (الثنائية الديكارتية)، التي وضع أسسها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في القرن السابع عشر، والتي ترى أن العقل والجسد جوهران منفصلان تمامًا. وفقًا لهذه النظرة، العقل هو المصدر الوحيد للتفكير والتعلم، بينما الجسد مجرد خادم مطيع له. الإدراك المتجسد يتصادم أيضا مع نظريات علم النفس الكلاسيكية، التي لم يكن للجسد فيها أي دور يذكر، ولا تتجاوز المعرفة فيها كونها مجرد عمليات ذهنية ليس لها أي علاقة بالإحساس والحركة. نتيجة لهذا الإرث المعرفي العتيق، صرنا نرى العقل والجسد شيئين مختلفين منفصلين لا علاقة بينهما، ونعتبر الجسد مجرد عبء ثقيل نجره خلال رحلة التعلم.
غُرست بذور نظرية الإدراك المتجسد في القرن التاسع عشر من خلال الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي ويليام جيمس، الذي كان من أوائل من اعتبروا أن الفكر والعقل لا ينفصلان عن التجربة الجسدية. في كتابه “مبادئ علم النفس” ، أكد جيمس أن العقل والجسد يتضافران في عملية الإدراك، مقدمًا بذلك رؤية متكاملة للتفكير تتجاوز الثنائية الديكارتية. في فترة زمنية مقاربة، شدد رائد الفلسفة التربوية الفيلسوف الأمريكي جون ديوي على أهمية التجربة العملية في التعلم. أكد ديوي أنه لكي يتعلم الطالب، يجب ألا يكتفي بالتأمل الذهني والتفكير المجرد. بدلاً من ذلك، رأى أن التعلم يقتضي الانخراط في أنشطة تعليمية والتفاعل مع البيئة. هذا التفاعل يعتبر تجسيداً مبكراً لفكرة الإدراك المتجسد، حيث يشارك الجسد بشكل فعال في عملية التعلم والفهم. أفكار جيمس وديوي، رغم أنها سبقت صياغة نظرية الإدراك المتجسد بعقود، لكنها وضعت الأساس الفلسفي والنفسي لها.
اللغة المجسدة: كيف تشكل حواسنا كلماتنا؟
صدى نظرية الإدراك المتجسد تردد أيضاً في القرن العشرين، حيث صرّح اللغويان “جورج لايكوف” و”مارك جونسون” في كتابهما الشهير “الاستعارات التي نحيا بها” أن اللغة تنبثق من تجاربنا الحسية. للتوضيح، حين نتعلم شيئاً جديداً نتذكر تجربتنا الحسية السابقة في الانتقال من الظلمة للنور، فنقول “العلم نور”، وعندما يضيق بنا الوقت نتذكر إحساس الضغوطات المالية، فنقول “الوقت من ذهب”. هذا يدل أن التجربة الجسدية والحسية سبقت المعرفة العقلية، وشكلت أساسها، أي أن الجسد ساهم مثل العقل في ابتكار هذه الاستعارات اللغوية.
العقل الممتد: كيف تصبح التقنية جزءاً من العقل؟
نظرية “الإدراك المتجسد” أعيد تقديمها بثوب جديد في القرن الحالي، حيث انتشرت بشكل أوسع بعد نشر ورقة علمية بعنوان “العقل الممتد” في ١٩٩٨ من قبل العالمين أندي كلارك وديفيد تشالمرز. تمكنت الورقة من نقل فكرة الإدراك المتجسد لمستوى آخر يتناسب مع الثورات التقنية الحديثة، حيث وضحت أن عقل الإنسان يتجاوز جسده، ويتداخل مع الأدوات التي يستعملها، سواء كانت قلم، حاسب، أو تطبيقات. على سبيل المثال، عندما تحفظ رقم في هاتفك فإن ذاكرة هاتفك تصبح امتداداً لذاكرة عقلك. بالإضافة لذلك، وجدت دراسات أخرى أن الأدوات التي نستخدمها تؤثر بشكل جوهري على طريقة تفكيرنا بشكل غير متوقع. فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن استخدام لوحة المفاتيح في الكتابة يجعلك أكثر إنتاجية (تكتب أكثر في وقت أقل) بينما استخدام القلم يجعلك أكثر إبداعا.
الإدراك المتجسد في التعليم
نظرية “الإدراك المتجسد” تحمل إمكانيات مبهرة للتعليم، فهي تشجع المعلم على اختيار طرق تدريس تتجاوز القراءة والاستماع، لتشمل طرق تدريس يتفاعل فيها الطلاب بنشاط مع المادة التعليمية. على سبيل المثال، يمكن تشجيع الطلاب على التعلم الجماعي أو تنفيذ مشاريع تعليمية تنطوي على تنفيذ حلول لمشكلات حقيقية في المجتمع. كما يمكن استخدام نظرية “الإدراك المتجسد” كبوصلة لتصميم المدارس والفصول الدراسية بطريقة تعزز الحركة والتفاعل الجسدي. على سبيل المثال، يمكن تصميم فصول دراسية بأثاث قابل للتحريك لتسهيل العمل الجماعي، أو إنشاء مساحات تعلم خارجية تشجع على الاستكشاف والتجربة.
التقنيات التعليمية الحديثة أيضًا تحمل إمكانيات مبهرة لتوظيف الإدراك المتجسد في التعليم. فتقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز تمكن المعلم من إنتاج بيئات افتراضية حيث يتمكن الطلاب من التفاعل بشكل جسدي مع المفاهيم والأفكار النظرية. مثال على ذلك، يمكن استخدام الواقع الافتراضي لتمكين الطلاب من السفر عبر الزمن لتجربة أحداث تاريخية، أو الغوص في خلية حية لفهم بنيتها وعملياتها.
إذا كنت قد أجريت تجربة الوقوف بوضعية القوة في بداية المقال، فلاحظ كيف ساعد هذا النشاط الجسدي البسيط في توضيح فكرة المقال. وإذا لم تكن قد جربتها بعد، فقم بذلك الآن – فالنشاط سيساهم بشكل أكبر في تعزيز فهمك لفكرة الإدراك المتجسد. في الواقع، تطبيق هذا النشاط نفسه يجسد فكرة الإدراك المتجسد بطريقة ملموسة.