الرئيسية غير مصنف الثقة المفرطة

الثقة المفرطة

بواسطة سعود العمر

( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي )

سورة القصص آية ٧٨

عقل الإنسان عبارة عن ألة ثقة مفرطة. يعزو لنفسه نتائج لا فضل له فيها على غرار قارون عندما قال لقومه ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ) بعدما سألوه أن يحسن كما أحسن الله إليه. يفسّر بروفسور علم النفس في جامعة هارفارد ( دانيل قلبرت ) ظاهرة الثقة المفرطة بأن لدينا جهاز مناعة نفسي قوي يضخم المعلومات التي تؤكد صفاتنا الجيدة ويتجاهل أي معلومة تشكك في قدراتنا. 

صورة لما يعتقد أنه قصر قارون في محافظة الفيوم جنوب غرب مصر

تأمل معي الإحصائيات والملاحظات التالية التي ذكرها ( ديفيد بروكس ) في كتابه ( المخلوق الاجتماعي ):

٩٠٪؜ من سائقي السيارات على قناعة تامة بأن قدراتهم خلف المقود فوق المتوسطة.

٩٤٪؜ من أعضاء هيئة التدريس واثقون بأن قدراتهم التدريسية فوق المتوسط.

٩٠٪؜ من رواد الأعمال على ثقة أن مشارعيهم سوف تنجح.

٨٩٪؜ من طلاب الثانوية ممن خضعوا لاختبار القدرات الجامعية واثقون بأن قدراتهم القيادية متوسطة أو فوق المتوسطة.

وضّح استبيان أن طلاب الجامعات يبالغون جدا في تقدير فرصتهم في الحصول على وظيفة بمرتب عالي، السفر للخارج، أو ( أسف للأخبار السيئة ) البقاء متزوجين لفترة طويلة.

عند التسوق، يختار المتسوقون ذوي الأعمار المتوسطة ملابس أضيق من مقاسهم أملين أنهم سيخسرون بعض الكيلوجرامات في المستقبل، رغم أن في سنهم يحدث العكس عادة. 

الناس يبالغون في تقدير سلوكهم الإيجابي. يشتركون في الأندية ظنا منهم أنهم سوف يلتزمون وفي الغالب هذا لا يحدث. إلى درجة أن الشركات التي تقدم منتجات باشتراكات شهرية ( مثل نتفليكس ) تسمي الحساب النشط  والذي لا يستخدم ( اشتراك النادي الرياضي ).

الأشخاص يبالغون في تقدير كيف سيتصرفون في المواقف الصعبة. مثلا، في دراسة في جامعة بنسلفانيا أكد نصف الطلاب أنهم سيتصرفون بحزم لو تعرضوا لتعليق جنسي. بعدما رتب الباحثين حدوث ذلك فقط ١٦٪؜ من الطلاب نطقوا بكلمة. 

الأفراد يبالغون أيضا في تقدير معرفتهم. وزع باحثين استبانات على مدراء تنفيذين في مجالات مختلفة لقياس مدى معرفاتهم في مجالاتهم. والنتائج كانت كالتالي:

في مجال الإعلانات، المدراء التنفيذين كانوا واثقين من صحة ٩٠٪؜ من إجاباتهم، بينما في الحقيقة ٦١٪؜ من إجاباتهم كانت خطأ. 

في مجال التقنية، المدراء التنفيذين كانوا متأكدين من صحة ٩٥٪؜ من الإجابات لكن ٨٠٪؜ من إجاباتهم كانت خطأ. 

النتيجة النهائية، وزع الباحثين استبانتهم على ألفين مدير تنفيذي وكان نسبة الذين بالغوا في تقدير معرفتهم … هل أنت جاهز؟ … ٩٩٪؜.

في تجربة أخرى، ذكر الباحثين لعينتهم من المشاركين أن درجتهم في اختبار الذكاء كانت منخفضة. ماذا تتوقع كانت ردة فعل المشاركين؟ خصوصا وأن الثقة الزائدة هي سمة عقل الإنسان؟ بدأوا بعدها يبحثون ويقرأون عن عيوب وضعف اختبارات الذكاء. 

الحقيقة الصادمة أن نتائج الدراسات تشير إلى أن الثقة بالنفس غير مرتبطة بالقدرات. الأفراد ذوي القدرات المنخفضة يبالغون في تقدير قدراتهم. ليس فقط بشكل عام، بل حتى في قدراتهم اللغوية، والمنطقية، وحتى الفكاهية. ليس فقط يبالغون في تقدير قدراتهم بل يعيشون في حالة نكران تام لضعف قدراتهم وحاجتهم للتطوير.

“ما يتمناه المرء، سوف يؤمن به أيضاً”

ديموسثينيس

المجتمع يدفعك للإفراط في الثقة 

الثقة لا تتضخم نتيجة خلل في تفكير الفرد فقط، بل نتيجة خلل في المجتمع أيضا. المجتمع يعزز ويحفز ويدفع الفرد لأن يبالغ في ثقته في نفسه. يوضح عالم النفس الحائز على جائزة نوبل ( دانيال كانمان ) في كتابه ( التفكير السريع والبطيء ) هذه الظاهرة مستخدما الأطباء كمثال قائلا:

“بشكل عام ، يعتبر من الضعف والهشاشة ظهور الأطباء بمظهر غير الواثق من نفسه. يتم تقدير ثقتهم بأنفسهم أكثر بكثير من ترددهم وعدم تيقنهم، وهناك لوم سائد ضد كشفهم لأي حالة من عدم التأكد للمرضى. بشكل عام ، يعتبر ظهور الأطباء غير واثقين نقطة ضعف ودلالة على الهشاشة.”

يواصل ( كانمان ): “التقدير المنصف لحالة عدم التيقن هو حجر الزاوية للعقلانية – ولكن هذا ما لا يريده الناس ولا المنظمات في الوقت الحالي. عندما تكون الظروف صعبة وخطيرة، فمن غير المقبول إظهار التردد أو الشك، واعتراف المرء بأن رأيه مجرد تخمين أمر مرفوض تماما. نتيجة لذلك يتظاهر المسؤولون بالمعرفة ويتصرفون بناء على ذلك، وهذه الطريقة المختلة مفضّلة ومرغوبة.”

عندما يتعقل المرء ويحاول أن يزن الأمور بالطريقة الصحيحة، ويتردد ويرتاب بشكل عقلاني كي لا يرتكب فادحة، فإن المجتمع يعاقبه على ذلك. يؤكد ( كانمان ) على ذلك بقوله: الخبراء العقلانيين الذين يدركون مواطن معرفتهم وجهلهم يتم استبدالهم بأشخاص ممن يغالون في ثقتهم بأنفسهم ، والذين عادة يكسبون ثقة الآخرين.

كيف نتعامل مع الثقة المفرطة

يقدّم ( بيتر بيفلين ) نصيحة ذهبية للتعامل مع الثقة المفرطة في المؤسسات وعند الأفراد. يقول في كتابه ( البحث عن الحكمة ) أنه من المهم أن نعيد هيكلة بيئات العمل والمؤسسات الاجتماعية بشكل يسمح بالشك، والتردد، وإعادة التفكير. الشكل الحالي لمعظم المؤسسات يكافئ صانعي القرار الذي يظهرون أعلى درجة من الثقة، وليس أعلى درجة من التعقل. الثقة الزائدة تؤدي إلى أهداف وخطط غير واقعية وتجعلنا أكثر عرضة لخيبات الأمل. من المهم أن تركز على الأخطاء الممكن حدوثها وتنظر في عواقب الأمور، ومن الضروري أن تحدد هامش للخطأ في حساباتك وأن تسأل نفسك مرارا وتكرارا: هل أنا على خطأ؟ وما هو هذا الخطأ؟ ومن سوف يدلني عليه؟ وكيف سأتصرف إذا سأت الأمور؟ 

مقالات أخرى

اترك تعليق