الرئيسية غير مصنف القيمة الثمينة للعقل الفارغ

القيمة الثمينة للعقل الفارغ

بواسطة سعود العمر

“عندما يكون عقلك فارغا فإنه يكون مستعدا لأي شيء ومنفتحا لكل شيء. في عقل المبتدئ الكثير من الأفكار بينما في عقل الخبير القليل.”

المعلم والناسك الياباني شونريو سوزوكي

نهاية العالم

في شرق الولايات المتحدة، وعلى الحدود مع كندا، تقع شلالات ( نياجرا ). يبلغ تقريبا ارتفاع كل شلال ٥٠ مترا وعرض أكبرها ٧٩٢ مترا ويتدفق من قممها في كل دقيقة ستة ملايين قدم مكعب من الماء. تستخدم الشلالات لتوليد طاقة كهرومائية هائلة، وتعتبر معلما سياحيا بارزا حيث يزورها حدود ٢٦ مليون زائر سنويا. استغلت مناظرها في تصوير العديد من الأفلام من أشهرها فيلم ( نياجرا ) لمارلين مونروا، والجزء الثاني من سلسلة أفلام سوبرمان في عام ١٩٨٠، كما شكلت مسرحا لإحدى خدع الساحر ( ديفيد كوبرفيلد ) التي تستعصي على الاستيعاب، كما تم توظيفها لتصوير المشهد المذهل الذي جسّد نهاية العالم في الجزء الثاني من سلسلة (قراصنة الكاريبي). 

نهاية العالم المستوحاة من شلالات ( نياجرا ) كما صورها فيلم قراصنة وادي الكاريبي

في الصيف يكون المناخ حولها حارا ورطبا، وفي الشتاء تنخفض درجات الحرارة ويصاحب ذلك تساقط الثلوج، وعلى الرغم من انخفاض درجات الحرارة إلا أن الشلالات تستمر في التدفق. في مرات قليلة في التاريخ انخفضت درجة الحرارة إلى الحد الذي صاحبه حدوث تجمد جزئي للشلالات، لكن في يوم ٢٩ مارس ١٨٤٨ حدثت حالة استثنائية ونادرة، فقد انخفضت درجة الحرارة لمستوى غير مسبوق لدرجة أن الشلالات تجمدت كليا والمياه توقفت عن التدفق تماما، حينها انعدم صوت هدير الشلالات لأول مره في التاريخ المسجل. 

شلالات ( نياجرا ) متجمدة

ليلا ونهارا، ولألاف السنين كانت الشلالات تجلجل، ولم تتوقف ولو للحظة واحدة، وفجاءة تجمدت. من المؤكد أن الطيور التي ولدت وعاشت حول الشلالات كانت تسمع هديرها في كل لحظة من لحظات حياتها. منذ اللحظة التي يفتحون عيونهم نهارا وحتى اللحظة التي يغلقونها ليلا وهدير الشلالات يلجلج مسامعهم. لا بد أنهم كانوا يظنون أن صوت هدير الشلالات جزء حتميا من الوجود، وخلفية أساسية لكل الأصوات التي يسمعونها. تخيل دهشتهم عندما توقفت الشلالات وتخيل شعورهم وهم لأول مره في حياتهم القصيرة يلتقون حالة السكون. 

الشلال الذهني

مشكلة الإنسان المعاصر أن هناك شلال ذهني في رأسه، شلال من الأفكار لا يتوقف عن الهدير ولو للحظة واحدة، ومثل هدير شلالات نياجرا بالنسبة للطيور، يلجلج صوت الشلال الذهني في رأس الإنسان طوال الوقت إلى درجة أنه صار يعتقد أنه جزء حتميا من الوجود وجزء أساسيا في طريقة عمل ذهنه. حتى نفهم ونستوعب حقيقة هذا الشلال الذهني وحتى نعالجه بشكل دقيق نحتاج أن نعرف في البداية قصة اكتشافه. 

غداء الأساتذة

في حدود ١٩٢٠ وبالقرب من جامعة برلين، توجّه مجموعة من الأساتذة الجامعيين لتناول الغداء في أحد المطاعم. عقب جلوسهم على الطاولة حضر النادل وبدا يستمع لطلبات كل واحد منهم ويهز رأسه من دون أن يكتب شيئا. بعد دقائق أحضر النادل لكل واحد طلبه بدقة ومن دون أي خطأ مما أثار إعجابهم. 

بعد أن انتهوا من غدائهم، غادروا المطعم، لكن أحدهم اكتشف أنه نسي غرض له، عاد بسرعة للمطعم، وبدا يبحث عن النادل ذو الذاكرة الحديدية لمساعدته في العثور على ما نسيه. وجد النادل واستفسر منه، لكن النادل نظر للأستاذ بعينين فارغتين، لم يستطع النادل أن يتذكره ناهيك أن يتذكر طاولته. استغرب الأستاذ وسأله كيف نساه بهذه السرعة وهو الذي كان يستطيع تذكر كل تفاصيل الطلب دون أن يكتب شيئا. أجابه النادل بأنه يحفظ كل طلب حتى يتم تقديمه، بعد ذلك ينساه تماما. 

تأثير ( زيغارنك )

من ضمن الأساتذة كانت العالمة السوفيتية ( بلوما زيغارنيك ) التي استحوذت هذه الحادثة علي تفكيرها، وبدأت تتساءل إن كانت تحمل دلالة أكبر على طريقة عمل عقل الإنسان وذاكرته. كان جلي من هذا الموقف أن ذاكرتنا تتعامل بشكل مختلف بين المهام ( المنجزة ) والمهام ( غير المنجزة ). بدأت ( زيغارنيك ) بإجراء بعض التجارب، كانت تسند مهام لبعض الاشخاص، مثلا تطلب منهم تركيب أحجية صور مقطعة، ثم تقوم عن عمد بمقاطعتهم لترى تأثير مقاطعة إكمال المهمة على العقل. 

من هذه التجارب توصلت لما سمته بـ ( تأثير زيغارنك ). تأثير ( زيغارنك ) ينص أن العقل يعمد باستمرار لتذكيرك بالمهام والأهداف غير المنجزة، وبمجرد أن تنجزها يتوقف العقل عن تذكيرك بها. 

لنوضح فكرة تأثير ( زيغارنك ) بمثال بسيط. قم بتشغيل أغنية، وفي منتصف الأغنية أوقفها وانتظر لدقائق، ماذا تتوقع سوف يحدث؟ في الغالب، ستقوم بشكل لا إرادي بدندنة الأغنية بينك وبين نفسك. تفسير هذه الدندنة أن الاستماع للأغنية بالنسبة للعقل يعتبر مهمة لم تكتمل، لذلك يقوم تلقائيا بتذكيرك بها. عملية التذكير هذه لا إرادية ولا سلطة لعقلك الواعي عليها. 

كم مره خطرت أغنية رديئة على بالك ووجدت نفسك تدندها وتمنيت لو نسيتها؟ قد تكون منهمكا حتى أذنيك في عمل ما وفجاءة ومن دون سابق إنذار تجد نفسك تدندن: “وحركب الحنطور .. واتحنطر .. ترجن ترجن”.  السبب على الأرجح، أنك كنت تشاهد التلفزيون، أو تسمع الراديو، وبعد بدأ بث الأغنية بقليل قمت بتغيير القناة، وبالتالي اعتبرها ذهنك مهمة غير منجزة وبدء بتذكيرك بها بشكل مزعج. عندما أواجه هذه المشكلة لا أعرف حلا سوي أن أفتح ( اليوتيوب ) وأجبر نفسي على الاستماع للأغنية كاملة وبعدها يعتبرها عقلي ( مهمة منجزة ) وينساها.

ما يحدث لك أثناء الاستماع للأغنية قسه علي أي مهمة غير منجزة في عالمك. على سبيل المثال، هل سبق وأن كان لديك اختبار وأجلت البدء في الاستعداد له من أجل لقاء مع أصدقائك وأثناء الاجتماع بهم وجدت نفسك بشكل قسري تفكر في الاختبار؟ هذا بالضبط تأثير ( زيغارنك ) المزعج. 

الأن أريدك أن تحاول أن تستحضر كل أهدافك وكل المهام المطلوبة منك. كل شيء على الإطلاق. ابتداء بما تعتبره أهم شيء في حياتك وانتهاء بأقلها أهمية. كل أهدافك العظيمة التي لم تحققها بعد وكل مهامك الصغيرة التي لم تنجزها حتى الآن. الحقيقة الصادمة هي أن عقلك بشكل واعي وغير واعي يذكرك ويزعجك بلا كلل وبلا ملل بها كلها. مواصلة الدراسة، بدء مشروع تجاري، تسديد الفاتورة، كتابة تقرير، لقاء زملاء العمل نهاية الاسبوع، موعد طبيب الاسنان، حنفية المطبخ التي لا تعمل، موعد تغيير زيت السيارة. كلها، دون استثناء، يذكرك عقلك بها، دائما وأبدا. هذا التذكير المزعج شديد الشبه بصوت المِثْقَب (الدريل) في الجدار. صوت صاخب ومزعج ومتواصل، لكنك في الغالب ألفته وتقبلت التعايش معه لدرجة أنك لم تعد تنتبه لوجوده. 

هل تشعر بعمق المشكلة؟

 الأنسان الطبيعي صار مثل الطيور عند شلالات نياجرا، تعود على هدير عقله الدائم ولم يعد يستطيع أن يتخيل الحياة بدونه. هذا الازعاج العقلي يقلل بشكل كبير من جودة الحياة. هذا الصخب الذهني الدائم يقلل، إن لم يكن يقتل، الاستمتاع بأي لحظة. عندما يجلس الفرد مع عائلته في المنزل يفكر بالعمل ومهامه المتراكمة، وعندما يذهب للعمل يفكر بعائلته وأعمال المنزل غير المنجزة، عندما يخرج مع أصدقائه يفكر بمشروعه التجاري الذي لم يبدأه، وعندما يسافر في رحلة استجمام ينشغل ذهنه بترقيته المتأخرة، وعندما تغرب الشمس أمامه بكل جلال وسحر تتفاجأ بأن كل ما يشغله تفكيره هو موعد تجديد رخصة القيادة. 

قد ينغمس ويستغرق الأنسان في هذه الثرثرة الذهنية حتى يصل لمرحلة يفقد فيها اتصاله بالواقع، يصبح نائما وهو مستيقظ، يصبح مثل الموتى الأحياء ( الزومبي ). يقول ( ليوناردو دا فينشي )، “الإنسان الطبيعي ينظر ولا يرى، يسمع ولا يستمع، يلمس ولا يشعر، يأكل ولا يتذوق، يتحرك من دون إدراك، يستنشق ولا يشم الرائحة، ويتحدث دون تفكير.”

هل هناك طريقة لأيقاف هذا الشلال العقلي الأهوج؟ هل من طريقة لتحقيق السكون الذهني؟

نعم، وهي أبسط مما تتخيل.

“الإنسان الطبيعي ينظر ولا يرى، يسمع ولا يستمع، يلمس ولا يشعر، يأكل ولا يتذوق، يتحرك من دون إدراك، يستنشق ولا يشم الرائحة، ويتحدث دون تفكير”.

ليوناردو دا فينشي

التخطيط

هناك تفسيران لظاهرة ( زيغارنك ). التفسير الأول هو أن عقلك يريدك أن تحقق أهدافك لذا يذكرك بها حتى تحققها. بالتالي، المخرج الوحيد من الإزعاج العقلي هو تحقيق الأهداف. التفسير الثاني هو أن العقل الباطن يطلب المساعدة من العقل الواعي كطفل يتعلق بطرف كم أمه، وأسهل طريقة لمساعدته هي بالتخطيط لإنجاز المهمة بشكل يجعل العقل الباطن يثق أن العقل الواعي سوف ينجزها. حينها يتوقف الضجيج العقلي. 

لنعد لمثال الاختبار، تخيل أنك خططت لمذاكرة الاختبار بشكل دقيق. لنفترض أن منهج الاختبار يتكون من خمسة فصول ومتبقي على الاختبار أسبوعا. خططت أن تدرس كل يوم فصلا، وفي اليوم السادس ستعيد مذاكرة كل الفصول، واليوم السابع ستجعله يوم احتياطي في حال لم تتمكن من الدراسة في أحد الأيام. بعدها جمعت كل الأوراق والكتب التي تحتاجها ووضعتها في حقيبة كي تكون جاهزة، ثم حددت أحد الأماكن الهادئة القريبة منك للدراسة، وأخيرا وضعت منبه في هاتفك الجوال من أجل تذكيرك بموعد الخروج للدراسة. بعد أن انتهيت من التخطيط للاختبار خرجت في المساء مع أصدقائك. في هذه الحالة وبعد التخطيط لن يزعجك عقلك الباطن بتذكيرك بالاختبار أبدا، لأنه صار واثقا من أنك ستنجزه. 

خلاصة القول، العقل الباطن لا يذكرك بالمهمة من أجل إنجازها بل من أجل التخطيط لها. بمجرد أن تحدد الوقت، والمكان، والمصادر، والوسيلة التي ستذكرك بالبدء، سيثق عقلك الباطن أن زمام الأمور صارت في قبضتك وسيتركك لتستمع بوقتك. 

مستعد لأي شيء مع تطبيق Braintoss

تذكر أن عقلك الباطن لا يفرّق بين هدف كبير وهدف صغير. سيقض مضجعك بتذكيرك بالبدء بمشروعك الضخم كما سيقلق راحتك بتذكيرك بشراء كيس الخبز. لذلك من المهم أن تكون دائما مستعدا له، وبمجرد أن يبدئ عقلك بتذكيرك بأي شيء لا بد أن تخرسه فوراً. 

الحل هو أن تستخدم تطبيق لتسجيل أي فكرة تخطر على بالك. إذا سجلت الفكرة ووضعتها في مكان تثق أنك ستطلع عليه في الوقت المناسب وتخططه بشكل جيد سيتوقف عقلك عن تذكيرك بها. 

هناك تطبيقات كثيرة جيدة بإمكانك استخدامها لتسجيل الأفكار. شخصيا، قبل اختياري للتطبيق الذي استخدمه وضعت شرطين لا ثالث لهما: الشرط الأول: يجب أن يمكنني التطبيق من تسجيل الفكرة بسرعة وفي نقرتين فقط، والنقرة الأولى ستكون نقرة فتح التطبيق. أي تطبيق يتطلب مني أكثر من نقرتين لتسجيل الفكرة مرفوض قطعا. الشرط الثاني، يجب أن يسمح التطبيق بتسجيل الفكرة إما كتابة، أو بتسجيل الصوت، أو بالتقاط صوره. أثناء القيادة تخطر لي افكار كثيرة ولا استطيع أن أكتب، لذلك أحتاج التسجيل الصوتي. بالنسبة للصور فهي مفيدة لتصوير الإعلانات أو أغلفة الكتب أو المنتجات التي احتاج تذكرها. 

التطبيق الذي وقع اختياري عليه كان ( Braintoss )، وهو تطبيق بقيمة ٢٫٩٩$ متوفر على متجر أبل والاندرويد وعلى متجر ساعة أبل. واجهة التطبيق بسيطة كالتالي: 

هناك ثلاث خيارات فقط: تسجيل صوت، كتابة نص، التقاط صورة. تختار الخيار الذي تريد ثم تسجل فكرتك وبعدها يرسلها التطبيق على بريدك الالكتروني. فقط، هذه هي كل الحكاية. لاحقا، بإمكانك أن تخطط وترتب أفكارك بشكل دقيق. إذا لم تكن ترغب بأن يمتلئ بريدك بهذه الرسائل بإمكانك إرسالها لبرامج إدارة المهام ( مثلا: Todoist, Things, OmniFocus ). معظم برامج إدارة المهام توفر بريد خاص لها بحيث يمكنك الإرسال له ثم تضاف الرسالة تلقائيا كمهمة جديدة في البرنامج. 

تطبيق ( Braintoss ) على ( ساعة آبل ) عملي للغاية. عندما أمارس المشي مثلا وتخطر لي فكرة وأقرر تسجيلها فكل المطلوب هو أن أرفع رسغي ثم أضغط زر التطبيق الموجود على وجه الساعة ثم أبدأ فورا بتسجيل الفكرة صوتيا. بعد أجزاء من الثانية تكون الفكرة بانتظاري في صندوق البريد الإلكتروني.

السكينة

من أشد الضلالات التي قد تسيطر على عقل الإنسان هي أن النتائج العظيمة تستلزم أفعالا عظيمة. غالبا، النتائج العظيمة تتحصل من أعمال صغيرة نقوم بها بشكل متكرر في المكان والوقت المناسبين. فكرة ( تأثير زيغارنك ) فكرة بسيطة وتطبيق ( Braintoss ) تطبيق صغير، لكن ثق أنك قادر أن ترفع من مستوى وعيك من خلالها. إذا استخدمتها بشكل فعال، بإمكانك الانتقال من حالة الانغماس في الثرثرة الذهنية لحالة الحضور الذهني، بإمكانك الاستمتاع وتقدير وعيش كل لحظة، وبإمكانك إيجاد فسحة من السكون العقلي. يقول المعلم الهندي أوشو: “السكينة هي المساحة التي يستيقظ من خلالها الإنسان، والعقل الثرثار هو المساحة التي ينام فيها. إذا كان عقلك يثرثر بشكل متواصل فثق أنك نائم”.

“السكينة هي المساحة التي يستيقظ من خلالها الإنسان، والعقل الثرثار هو المساحة التي ينام فيها. إذا كان عقلك يثرثر بشكل متواصل فثق أنك نائم.”

المعلم الهندي أوشو

مقالات أخرى

اترك تعليق